فصل: تفسير الآيات (1- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{والذين هم بشهاداتهم قائمون}..
وقد ناط الله بأداء الشهادة حقوقاً كثيرة، بل ناط بها حدود الله، التي تقام بقيام الشهادة. فلم يكن بد أن يشدد الله في القيام بالشهادة، وعدم التخلف عنها ابتداء، وعدم كتمانها عند التقاضي، ومن القيام بها أداؤها بالحق دون ميل ولا تحريف. وقد جعلها الله شهادة له هو ليربطها بطاعته، فقال: {وأقيموا الشهادة لله}.. وجعلها هنا سمة من سمات المؤمنين وهي أمانة من الأمانات، أفردها بالذكر للتعظيم من شأنها وإبراز أهميتها..
وكما بدأ سمات النفوس المؤمنة بالصلاة، ختمها كذلك بالصلاة:
{والذين هم على صلاتهم يحافظون}..
وهي صفة غير صفة الدوام التي ذكرت في صدر هذه الصفات.
تتحقق بالمحافظة على الصلاة في مواعيدها، وفي فرائضها، وفي سننها، وفي هيئتها، وفي الروح التي تؤدى بها. فلا يضيعونها إهمالاً وكسلا. ولا يضيعونها بعدم إقامتها على وجهها.. وذكر الصلاة في المطلع والختام يوحي بالاحتفال والاهتمام. وبهذا تختم سمات المؤمنين..
وعندئذ يقرر مصير هذا الفريق من الناس بعد ما قرر من قبل مصير الفريق الآخر:
{أولئك في جنات مكرمون}..
ويجمع هذا النص القصير بين لون من النعيم الحسي ولون من النعيم الروحي. فهم في جنات. وهم يلقون الكرامة في هذه الجنات. فتجتمع لهم اللذة بالنعيم مع التكريم، جزاء على هذا الخلق الكريم، الذي يتميز به المؤمنون.
ثم يعرض السياق مشهداً من مشاهد الدعوة في مكة، والمشركون يسرعون الخطى إلى المكان الذي يكون فيه الرسول صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن. ثم يتفرقون حواليه جماعات. ويستنكر إسراعهم هذا وتجمعهم في غير ما رغبة في الاهتداء بما يسمعون:
{فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين}..
المهطع هو الذي يسرع الخطى ماداً عنقه كالمقود. وعزين جمع عزة كفئة وزناً ومعنى.. وفي التعبير تهكم خفي بحركتهم المريبة. وتصوير لهذه الحركة وللهيئة التي تتم بها. وتعجب منهم. وتساؤل عن هذا الحال منهم! وهم لا يسرعون الخطى تجاه الرسول ليسمعوا ويهتدوا، ولكن فقط ليستطلعوا في دهشة ثم يتفرقوا كي يتحلقوا حلقات يتناجون في الكيد والرد على ما يسمعون!
ما لهم؟ {أيطمع كل امرئ منهم أن يُدخل جنة نعيم}..
وهم على هذه الحال التي لا تؤدي إلى جنة نعيم، إنما تؤدي إلى لظى مأوى المجرمين!
ألعلهم يحسبون أنفسهم شيئاً عظيماً عند الله؛ فهم يكفرون ويؤذون الرسول، ويسمعون القرآن ويتناجون بالكيد. ثم يدخلون الجنة بعد هذا كله لأنهم في ميزان الله شيء عظيم؟!.
{كلا} في ردع وفي تحقير.. {إنا خلقناهم مما يعلمون}!
وهم يعلمون مم خلقوا! من ذلك الماء المهين الذي يعرفون! والتعبير القرآني المبدع يلمسهم هذه اللمسة الخفية العميقة في الوقت ذاته؛ فيمسح بها كبرياءهم مسحاً، وينكس به خيلاءهم تنكيساً، دون لفظة واحدة نابية، أو تعبير واحد جارح. بينما هذه الإشارة العابرة تصور الهوان والزهادة والرخص أكمل تصوير! فكيف يطمعون أن يدخلوا جنة نعيم على الكفر وسوء الصنيع؟ وهم مخلوقون مما يعلمون! وهم أهون على الله من أن تكون لهم دالة عليه، وخرق لسنته في الجزاء العادل باللظى وبالنعيم.
واستطراداً في تهوين أمرهم، وتصغير شأنهم، وتنكيس كبريائهم، ويقرر أن الله قادر على أن يخلق خيراً منهم، وأنهم لا يعجزونه فيذهبون دون ما يستحقون من جزاء أليم:
{فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيراً منهم وما نحن بمسبوقين}.

.سورة نوح:

.تفسير الآيات (1- 28):

{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)}
هذه السورة كلها تقص قصة نوح عليه السلام مع قومه؛ وتصف تجربة من تجارب الدعوة في الأرض؛ وتمثل دورة من دورات العلاج الدائم الثابت المتكرر للبشرية، وشوطاً من أشواط المعركة الخالدة بين الخير والشر، والهدى والضلال، والحق والباطل.
هذه التجربة تكشف عن صورة من صور البشرية العنيدة، الضالة، الذاهبة وراء القيادات المضللة، المستكبرة عن الحق، المعرضة عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان، المعروضة أمامها في الأنفس والآفاق، المرقومة في كتاب الكون المفتوح، وكتاب النفس المكنون.
وهي في الوقت ذاته تكشف عن صورة من صور الرحمة الإلهية تتجلى في رعاية الله لهذا الكائن الإنساني، وعنايته بأن يهتدي. تتجلى هذه العناية في إرسال الرسل تترى إلى هذه البشرية العنيدة الضالة الذاهبة وراء القيادات المضللة المستكبرة عن الحق والهدى.
ثم هي بعد هذا وذلك تعرض صورة من صور الجهد المضني، والعناء المرهق، والصبر الجميل، والإصرار الكريم من جانب الرسل صلوات الله عليهم لهداية هذه البشرية الضالة العنيدة العصية الجامحة. وهم لا مصلحة لهم في القضية ولا أجر يتقاضونه من المهتدين على الهداية، ولا مكافأة ولا جُعل يحصلونه على حصول الإيمان! كالمكافأة أو النفقة التي تتقاضاها المدارس والجامعات والمعاهد والمعلمون، في زماننا هذا وفي كل زمان في صورة نفقات للتعليم!
هذه الصورة التي يعرضها نوح عليه السلام على ربه، وهو يقدم له حسابه الأخير بعد ألف سنة إلا خمسين عاماً قضاها في هذا الجهد المضني، والعناء المرهق، مع قومه المعاندين، الذاهبين وراء قيادة ضالة مضللة ذات سلطان ومال وعزوة. وهو يقول:
{رب إني دعوت قومي ليلاً ونهارا فلم يزدهم دعآئي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهاراً ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السمآء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا والله جعل لكم الأرض بساطاً لتسلكوا منها سبلاً فجاجا}..
ثم يقول بعد عرض هذا الجهد الدائب الملح الثابت المصر:
{رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكراً كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيراً..}..
وهي حصيلة مريرة. ولكن الرسالة هي الرسالة!
هذه التجربة المريرة تعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي انتهت إليه أمانة دعوة الله في الأرض كلها في آخر الزمان، واضطلع بأكبر عبء كلفه رسول.
يرى فيها صورة الكفاح النبيل الطويل لأخ له من قبل، لإقرار حقيقة الإيمان في الأرض. ويطلع منها على عناد البشرية أمام دعوة الحق؛ وفساد القيادة الضالة وغلبتها على القيادة الراشدة. ثم إرادة الله في إرسال الرسل تترى بعد هذا العناد والضلال منذ فجر البشرية على يدي جدها نوح عليه السلام.
وتعرض على الجماعة المسلمة في مكة، وعلى الأمة المسلمة بعامة، وهي الوارثة لدعوة الله في الأرض، وللمنهج الإلهي المنبثق من هذه الدعوة، القائمة عليه في وسط الجاهلية المشتركة يومذاك، وفي وسط كل جاهلية تالية.. ترى فيها صورة الكفاح والإصرار والثبات هذا المدى الطويل من أبي البشرية الثاني. كما ترى فيها عناية الله بالقلة المؤمنة، وإنجاءها من الهلاك الشامل في ذلك الحين.
وتعرض على المشركين ليروا فيها مصير أسلافهم المكذبين؛ ويدركوا نعمة الله عليهم في إرساله إليهم رسولاً رحيماً بهم، لا يدعو عليهم بالهلاك الشامل؛ وذلك لما قدره الله من الرحمة بهم وإمهالهم إلى حين. فلم تصدر من نبيهم دعوة كدعوة نوح، بعدما استنفد كل الوسائل، وألهم الدعاء على القوم بما ألهم:
{ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً}..
{وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا}..
ومن خلال عرض هذه الحلقة من حلقات الدعوة الإلهية على البشرية تتجلى حقيقة وحدة العقيدة وثبات أصولها، وتأصل جذورها. كما يتجلى ارتباطها بالكون وبإرادة الله وقدره، وأحداث الحياة الواقعة وفق قدر الله. وذلك من خلال دعوة نوح لقومه: {قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جآء لا يؤخر لو كنتم تعلمون}.. وفي حكاية قوله لهم: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً وقد خلقكم أطواراً ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً والله جعل لكم الأرض بساطاً لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً}..
ولإقرار هذه الحقيقة في نفوس المسلمين قيمته في شعورهم بحقيقة دعوتهم، وحقيقة نسبهم العريق! وحقيقة موكبهم المتصل من مطلع البشرية. وحقيقة دورهم في إقرار هذه الدعوة والقيام عليها. وهي منهج الله القويم القديم.
وإن الإنسان ليأخذه الدهش والعجب، كما تغمره الروعة والخشوع، وهو يستعرض بهذه المناسبة ذلك الجهد الموصول من الرسل عليهم صلوات الله وسلامه لهداية البشرية الضالة المعاندة.
ويتدبر إرادة الله المستقرة على إرسال هؤلاء الرسل واحداً بعد واحد لهذه البشرية المعرضة العنيدة.
وقد يعن للإنسان أن يسأل: ترى تساوي الحصيلة هذا الجهد الطويل، وتلك التضحيات النبيلة، من لدن نوح عليه السلام إلى محمد عليه الصلاة والسلام ثم ما كان بينهما وما تلاهما من جهود المؤمنين بدعوة الله وتضحياتهم الضخام؟
ترى هل تساوي هذا الجهد الذي وصفه نوح في هذه السورة وفي غيرها من سور القرآن، وقد استغرق عمراً طويلاً بالغ الطول، لم يكتف قومه فيه بالإعراض، بل أتبعوه بالسخرية والاتهام. وهو يتلقاهما بالصبر والحسنى، والأدب الجميل والبيان المنير.
ثم تلك الجهود الموصولة منذ ذلك التاريخ، وتلك التضحيات النبيلة التي لم تنقطع على مدار التاريخ. من رسل يستهزأ بهم، أو يحرقون بالنار، أو ينشرون بالمنشار، أو يهجرون الأهل والديار.. حتى تجيء الرسالة الأخيرة، فيجهد فيها محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الجهد المشهود المعروف، هو والمؤمنون معه. ثم تتوالى الجهود المضنية والتضحيات المذهلة من القائمين على دعوته في كل أرض وفي كل جيل، ترى تساوي الحصيلة كل هذه الجهود، وكل هذه التضحيات، وكل هذا الجهاد المرير الشاق؟ ثم.. ترى هذه البشرية كلها تساوي تلك العناية الكريمة من الله، المتجلية في استقرار إرادته سبحانه على إرسال الرسل تترى بعد العناد والإعراض والإصرار والاستكبار، من هذا الخلق الهزيل الصغير المسمى بالإنسان؟!
والجواب بعد التدبر: أن نعم: وبلا جدال..!
إن استقرار حقيقة الإيمان بالله في الأرض يساوي كل هذا الجهد، وكل هذا الصبر، وكل هذه المشقة، وكل هذه التضحيات النبيلة المطردة من الرسل وأتباعهم الصادقين في كل جيل!
ولعل استقرار هذه الحقيقة أكبر من وجود الإنسان ذاته؛ بل أكبر من الأرض وما عليها؛ بل أكثر من هذا الكون الهائل الذي لا تبلغ الأرض أن تكون فيه هباءة ضائعة لا تكاد تحس أو ترى!
وقد شاءت إرادة الله أن يخلق هذا الكائن الإنساني بخصائص معينة، تجعل استقرار هذه الحقيقة في ضميره وفي نظام حياته موكولاً إلى الجهد الإنساني ذاته، بعون الله وتوفيقه. ولسنا نعلم لم خلق الله هذا الكائن بهذه الخصائص.. ووكله إلى إدراكه وجهده وإرادته في تحقيق حقيقة الإيمان في ذاته وفي نظام حياته؛ ولم يجبله على الإيمان والطاعة لا يعرف غيرهما كالملائكة، أو يمحضه للشر والمعصية لا يعرف غيرهما كإبليس.
لسنا نعلم سر هذا. ولكننا نؤمن بأن هنالك حكمة تتعلق بنظام الوجود كله في خلق هذا الكائن بهذه الخصائص!
وإذن فلابد من جهد بشري لإقراره حقيقة الإيمان في عالم الإنسان. هذا الجهد اختار الله له صفوة من عباده هم الأنبياء والرسل. وثلة مختارة من أتباعهم هم المؤمنون الصادقون.
اختارهم لإقرار هذه الحقيقة في الأرض، لأنها تساوي كل ما يبذلون فيها من جهود مضنية مريرة، وتضحيات شاقة نبيلة.
إن استقرار هذه الحقيقة في قلب معناه أن ينطوي هذا القلب على قبس من نور الله؛ وأن يكون مستودعاً لسر من أسراره؛ وأن يكون أداة من أدوات قدره النافذ في هذا الوجود.. وهذه حقيقة لا مجرد تصوير وتقريب.. وهي حقيقة أكبر من الإنسان ذاته ومن أرضه وسمائه، ومن كل هذا الكون الكبير!